الملخص في سيرة ومسيرة منيب رشيد المصري

فلسطين .... كلمة السر وسر الكلمة

فلسطين الوطن الذي سكن فينا قبل أن نسكنه ، والعشق الذي تربع على عرش قلوبنا ، والأمل الذي استشعرناه وعشنا على وقعه وصداه ، وترنيمة الحياة التي مضينا على أنغامها فرسمت على وجوهنا الابتسامة وزرعت في وجداننا الخير ومنحت أرواحنا الدفئ وأسكنت عيوننا الحلم وحفزت هممنا للعطاء والتضحية والفداء .

تعلمت حب فلسطين منذ نعومة أظافري وتحديدا من خلال كلمات أمي زهية ابنة الشيخ علي حنون رحمها الله التي ربتني وأخوتي العشرة بعد وفاة والدي على حب فلسطين والانتماء للوطن والأرض وعزز هذا الحب  وجودي في مجتمع نابلس (جبل النار) المقاوم الذي أنجب قيادات يفتخر بها الوطن، فكان لذلك تأثيرا قويا حفزني أن أبدأ النضال مبكرا وتحديدا قبل تجاوز الثامنة من العمر بمبادرة عفوية  تمثلت في تعطيل القطار البريطاني ورشقه في الحجارة تعبيرا عن رفضنا لمن جاء غريبا على المكان والزمان . رفضنا لمن يمثلون بلفور ووعده وجاءوا تطبيقا لهذا الوعد المشؤوم .

شاءت الأقدار أن نتتلمذ في مدارس نابلس (جبل النار) على يد أساتذة عظام علمونا حب الوطن قبل أساسيات الحساب والعلوم وغرسوا فينا قيم الأصالة والعطاء للأرض والمجتمع بكافة مكوناته وأكاد لا أنسى أستاذي ومعلمي الأول المرحوم راغب ملحس الذي نقش في عقولنا وحفر في فكرنا منذ صغرنا أبعاد المشروع الصهيوني ضد فلسطين منذ مؤتمرهم الأول في بازل وقبل ذلك ، وعلمنا تفاصيل وعد بلفور المشؤوم وسايكس بيكو ليزرع فينا التمرد الثوري منذ الطفولة وليصبح الوطن همنا الأول والأخير .

حديث ورؤية والدتي مع أنها كانت أمية  كانت تركز على أهمية التعليم باعتباره أهم سلاح لمواجهة المخاطر وبناء المستقبل المشرق، ولأجل ذلك حرصت أن تبعث بي إلى لبنان بعد إغلاق المدارس في فلسطين وتحويلها على مسكن للاجئين ،فعشت بكل ألم مع أبناء شعبي معنى النكبة والابتعاد عن الأهل والوطن وقد زاد وجعي حالة القهر التي عاشها أبناء شعبي وهم يتركون منازلهم وبياراتهم وأراضيهم على أمل العودة القريبة التي كنا نعتقد جميعا أنها ستكون بعد أسابيع قليلة  ليس أكثر.

مكثت في لبنان التي لم تكن التجربة فيها مختلفا كثيرا حيث أشرف علينا الأستاذ مارون عبود وأساتذه اخرين لم يختلف نفسهم القومي والوطني عن المعلم الأول راغب ملحس وتعاطفوا معنا كوننا كنا طلابا من فلسطين وفي مقتبل العمر  فأدركت في ذلك الوقت أن القضية الفلسطينية ليست قضية الشعب الفلسطيني فحسب وإنما قضية كل عربي وحر في هذا العالم فتعمق فكرنا وتكون الهدف بأن الإخلاص للوطن هو خارطة طريقنا وبوصلتنا التي نمضي من خلالها ونوجه كل طاقاتنا لأجلها .

عدت الى نابلس لأكمل دراستي في ثانوية النجاح  وأنهي الماتريك ( التوجيهي ) وقد لمع في ذهني في تلك الفترة مجموعة مميزة من الاساتذة منهم قدري طوقان و محمد العمد وعبد الرازق رشيد وعبد الرحيم محمود وخليل خماش وأديب مهيار  وأمين صوفان والحاج صديق كمال والشيخ حسني العبوة وشاكر أبو حجلة وأمين موافي الذين حرصوا على تعبئتنا وطنيا وتأهلينا أكاديميا بشكل متميز فزرعوا فينا حب فلسطين وفلسفة العطاء والتضحية .

انهيت تعليمي الثانوي وتوجهت بعدها للولايات المتحدة الأميريكية وأنا أتذكر همسات والدتي ودموعها التي امتزجت بين فرحها بذهابي للتعليم وحزنها لبعدي عنها ، نعم لا انسى كلامها حول قيمة التعليم وأهمية الحصول على درجات متميزة .

 ولهوسي بحب فلسطين والأرض قررت أن أتعلم الجيولوجيا وعلوم الأرض كبديل عن دراسة قيادة الطائرات الحربية بعد أن حلمت لسنوات طويلة بدراسة الطيران تأثرا لمشاهد مؤلمة حين كنا نرى بأم أعيننا طائرات العصابات الصهيونية تقصف مدننا وقرانا فتشكل في ذهني ذلك المشهد الذي رأيت فيه بأن أكون طيارا يدافع عن وطنه ولكن التجربة كان مخيفة بالنسبة لي مما دفعني للبحث عن تخصص آخر .

في الولايات المتحدة الأميريكية عملت عاملا في أحد المطاعم لأتمكن من توفير قوت يومي والأنفاق على التكاليف الجامعية وشكلت ومجموعة من الأصدقاء أول تجمع طلابي عربي في تكساس أذكر منهم حسني الرمحي وربيع عياد  وأحمد وهشام الشوا وعدنان عاشور وهاني صنوبر ونبهان عرفات واخرين بعد الإطلاع على تجربة الصديق كمال الشاعر في ولاية منشغن  حيث عملنا من خلال هذا التجمع ضد الاحتلال والفكر الصهيوني مع الحرص التام على التميز الدراسي الذي حققناه من خلال شهادات التخرج بدرجة الامتياز سواء في الشهادة الجامعية الأولى أو الثانية وبفترة زمنية قياسية (ثلاثة سنوات بدلا من ستة سنوات) . 

إضافة إلى هاتين الشهادتين العلميتين  حصلت على شهادة ثالثة خلال مكوثي في الولايات المتحدة الأميريكة  تمثلت بزواجي من رفيقة دربي إنجلا ( أم ربيح ) وأنا في التاسعة عشرة من عمري وكانت الابنة الوحيدة لأمها رفس كدلر المعلمة  في مدارس تكساس ووالدها مهندس البترول جورج كدلر الذي رحل مبكرا بحادث سير .

ام ربيح شاركتني حب الأرض و فلسطين ورفض الاحتلال والظلم ، وكنت أدرك تماما وأومن بأن فلسطين هي المحرك الأساس والبوصلة التي أتوجه من خلالها بكل قرارات حياتي فدرست لأجل فلسطين وعملت لأجل فلسطين وتميزت لأجل فلسطين وآمنت بأنه كلما كنت قويا سأكون قادرا على خدمة القضية والوطن وأبناء شعبي .

وفي الولايات المتحدة الأميريكية أيضا بدأ يتشكل في مخيلتي حلما لشكل المنزل الذي سأبنيه في فلسطين حيث أصبت بالهوس بمبنى يسمى بلاديوم في مدينة شيكاغو يشمل مطعما ونادي ليلي في غاية الروعة ومنذ ذلك الوقت عقدت العزم على بناءه  (البهو ) بشكل مماثل في نابلس مهما كان الثمن .

عودتي لأرض الوطن لم تكن سهلة ، فقد كنت بحاجة للعمل من أجل جمع المال الكافي لتغطية تكاليف العودة أنا وزوجتي وولدي ربيح ، فبحثت عن عمل مناسب في مجال دراستي دون جدوى حتى قررت العمل كعامل في محجز إلى أن وصلني قبول إحدى شركات الهندسة الاميريكية تدعى إمباير جيو فيزيكال لأنجح بعد ثلاثة شهور للسفر من نيويورك إلى بيروت ثم إلى عمان .

بعد عودتي حاولت العمل في وزارة الاقتصاد الأردنية حين كان خلوصي الخيري وزيرا وحمد الفرحان وكيلا للوزارة وعبد الوهاب المجالي الوكيل المساعد ولكن لم استطع الحصول على عقد بخمسين دينارا في ذلك الوقت ،  لأحظى بفرصة العمل بشركة إدوين بولي براتب (700) دينارالتي باعت لاحقا اميتاز التنقيب لشركة فيلبيس بتروليوم .

بدأت العمل كأول جيولوجي قادم من أمريكا وبدأت أمسح أراضي الأردن وفلسطين مترا مترا وحفرنا أربعة أبار بحثا عن النفط كان ذلك في  الأزرق وحلحول والبحر الميت وصويلح . وخلال فترة عملي كموظف لم أنسى درسا تعلمته منذ الصغر يتمثل باقتران تأثير رجال المال والأعمال على السياسة بقدراتهم المالية وأدركت بأنني بحاجة أن أحصل على الثروة والجاه لأكون قادرا على صناعة التغيير وتذكرت كيف أقنع روتشايلد الحكومة البريطانية دون وجه حق منح اليهود وعد بلفور استجابة لمصالح مشتركة بالأساس فكان لا بد أن افكر ببناء قوة مالية تشكل نموذجا لنجاح الشباب الفلسطيني بجهد ذاتي استطيع من خلالها خدمة الوطن فأسست وزوجتي انجلا منذ عام 1956 المكتب الأردني للخدمات الهندسية والجيولوجية الذي تحول لاحقا للشركة العربية للأعمار بالشراكة مع نزار وطريف الايوبي والتي انبثقت عنها  (ادجو) التي تخصصت في الخدمات البترولية والتي جبت من خلالها الصحاري والقفار وأكاد لا أنسى أبرز حادثة في مسيرتي المهنية حين خطفتنا رمال صحراء الربع الخالي في أواخر السبعينيات بعد حفر مئات الابار في سلطنة عمان وتحديدا في منطقة ماكنة شحن وقد تهت في الصحراء لأكثر من أسبوع اضطرت خلال هذه الفترة شرب بولي ليكون أكسير الحياة الذي أنقذني من الموت .

وفي صيف عام 1962 أي بعد شهرين من استقلال الجزائر عرضت علي شركة فيلبس بتروليوم الأميريكية إدارة عملياتها في الجزائر بلد المليون شهيد ، ليشكل وجودي هناك محطة هامة في حياتي من خلالي احتكاكي بالنفس الثوري الجزائري والتعرف على أحمد بن بلا وعبد العزيز بوتفليقة وهواري بومدين والاخ حمدان عاشور والأخ محمد أبو ميزر ( أبو حاتم)  والأخ خليل الوزير (أبو جهاد ) الذي عرفني على الشهيد الرمز ياسر عرفات حيث بدأت تتشكل معه صداقة عميقة حاولت من خلالها تسخير كل إمكانياتي لخدمة القضية الفلسطينية والمساهمة في تأسيس حركة التحرر الوطني الفلسطيني وبعدها منظمة التحرير الفلسطينية وتشرفت بعضويتي للمجلسين الوطني والمركزي وشاركت في الاجتماع الاول للمجلس الوطني في مدنية القدس عام 1964. وكنت على تواصل كامل مع الشهيد الراحل أبو عمار وأخوانه في كل مرحلة من المراحل بما في ذلك مرحلة الخلاف الذي حصل مع المملكة الأردنية الهاشمية عام 1970 والذي سمي بأحداث أيلول الأسود وحاولت رأب الصدع قدر الإمكان وقد ساهمت بحمد الله في تحقيق ذلك قدر المستطاع إلى جانب جهود مبعوث الجامعة العربية الباهي الأدغم .

بعد ذلك طلب مني المغفور له الملك حسين بن طلال الانضمام للحكومة الأردنية كوزير للأشغال العامة وقد وافقت بعد مشاورة صديقي ياسر عرفات واشترطت قبول هذا التكليف بشرطين الأول أن أكون متطوعا بدون راتب وأخرج من الوزارة فور إنهاء المهمة والثاني أن يتم قبول صديقي عمرعبد الله دخقان كوزير في الحكومة الأمر الذي رحب به جلالة الملك وتشرفت في الخدمة في حكومة المرحوم وصفي التل ما يقارب العام أعدنا خلالها بناء البنية التحتية في المملكة وتطويرها بعد أن دمرت نتيجة الحرب الأهلية وكذلك كانت فرصة تاريخية للتعرف على شخصية وصفي التل ووطنيه وقوميته  .

بشكل مواز بدأت العمل على تحقيق الهدف الذي كان بوصلتي الدائمة والمتمثل بخدمة فلسطين وأهلها فأسست وزوجتي إنجلا مؤسسة منيب رشيد المصري للتنمية التي بدأت مشاريعها الخيرية منذ عام 1956 وتم الاعلان رسميا عن تسجيل المؤسسة عام 1970 والتي حققت إنجازات هامة في تنمية وتمكين الشعب الفلسطيني على أرضه من خلال مشاريعها في مختلف القطاعات فساهمت وبكل فخر في بناء الجامعات والمستشفيات المدارس وتمويل المشاريع الأغاثية والتنموية بمختلف القطاعات كأقل واجب اتجاه الوطن وابناء شعبنا .

خلال هذه المسيرة تعرفت على ابن فلسطين البار الحاج عبد الحميد شومان من خلال ولده عبد المجيد والذي أسس قصة نجاح عالمية متمثلة في البنك العربي بدأت من القدس وانتشرت بأرجاء المعمورة وقد تشرفت بانتخابي كعضو لمجلس إدارة البنك وثم  كنائب للرئيس مع المرحوم عبد المجيد شومان لأكثر من أربعين عاما ولأساهم معه ومع باقي الزملاء في نشر فروع البنك في العالم وكذلك كان لي شرف اقتراح تأسيس مؤسسة عبد الحميد شومان لتشكل بوابة عطاء جديدة ولتصبح الذراع التنموي للبنك العربي .

زادت الغربة والتنقل في أرجاء العالم حبي وشغفي لنصرة فلسطين وكنت أراقب دولة الاحتلال ومؤسساتها كيف تعمل وتهود وتسرق الارض والتاريخ وقد استفزتني ومجموعة من الاصدقاء الوكالة اليهودية كثيرا بكل نشاطاتها رغم بطلان خرافاتهم بشأن حقهم في فلسطين ، فأسسنا ردا على ذلك مؤسسة التعاون عام1983 مع رفاق الدرب عبد المجيد شومان وحسيب الصباغ وعبد المحسن قطان لتصبح أهم مؤسسة تنموية في فلسطين . بعد أن فشلنا في تأسيس مؤسسة على غرار الأيباك في أمريكا قمنا بتسميتها " الأمبري "وقد حاولنا كثيرا ومجموعة من الإخوة إنجاز ذلك ومنهم هشام الشرابي ابراهيم أبو لغد أدوارد سعيد ووليد الخالدي وزاهي خوري ولكن محاولاتنا باءت في الفشل فكان البديل هو تأسيس مؤسسة التعاون .

مع الوقت تفاقمت تفاقمت معاناة اللاجئين من أبناء شعبنا في مختلف الدول وخاصة بعد اجتياح لبنان عام 1982 فكان لا بد من إطلاق مبادرة جديدة لخدمتهم فأسسنا وبعض الأخوة جمعية العون الطبي التي قدمت خدماتها الصحية في مختلف المخيمات الفلسطينية منذ عام1984 وليومنا هذا. تبعها تأسيس الجالية الفلسطينية في بريطانيا بمشاركة الأخوة عبد الباري عطوان وفيصل عويضة و رفيق الحسيني.

في أوائل التسعينيات بدأ الحديث عن احتمالية توقيع اتفاق سلام بين الفلسطينيين والاسرائليين وبدأ يتبلور اتفاق أوسلوا الذي كنا نرفضه بشدة لأننا حلمنا وما زلنا بتحرير أرضنا واستعادة كامل حقوقنا المشروعة ولطالما اختلفت مع الشهيد ياسر عرفات حول طبيعة الاتفاق الذي أقنعني به وبأهمية العودة وتثبيت قواعد دولتنا وترسيخ النضال من الداخل فما كان بي إلا موافقته والعودة معه ، وكنت أرى في هذا الاتفاق ابطال لوعد بلفور الذي نفى أي حقوق أو ذكر للشعب الفلسطيني.

في عام 1993 عدنا للوطن لنكمل طريقنا الذي بدأناه من داخل الوطن محاولين رسم مستقبل مشرق لهم وبناء دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف وكنت أول من استشاره الراحل ياسر عرفات بشأن تشكيل الحكومة وتشرفت بأن أكون وزيرا دولة للشؤون المالية والاعمار كمتطوع إلى جانب مساهمتي في بناء الاقتصاد الوطني فبدأنا ومجموعة من الاصدقاء بتأسيس شركة فلسطين للتنمية والاستثمار (باديكو) التي ساهمت ببناء الاقتصاد الوطني وتوفير الالاف من فرص العمل للشباب والشابات  مع الحرص على عدم مزاحمة القطاعات الاقتصادية المتوفرة والتركيز على القطاعات التي يحتاجها الاقتصاد الفلسطيني فأسسنا السوق المالي واستثمرنا في الصناعات وقطاع الخدمات والسياحة  مع  العلم أن الشركة بدأت استثمارها برأس مال 176 مليون دولار وقد كان لي شرف ترأس مجلس إدارتها لأكثر من عشرين عاما خلفا للدكتور كمال الشاعر ولتصبح قيمة الشركة بعد عشرين عاما أكثر من ملياري دولار .

شكلت عائلتي الحلقة الأجمل من تفاصيل حياتي فكانت الزوجة انجلا الملهمة وبناتي مي ودينا دفئ الحياة وابنائي ربيح ومازن وعمر وليث فخر الحياة وحفيداتي وأحفادي الذين يمثلون الأمل والعنفوان ، وأخص بالذكر حفيدي البكرالذي أراه بطلا من أبطال الوطن الذي انطلق مع رفاقه إلى حدود فلسطين خلال مسيرات العودة في ذكرى النكبة ليقضي جريحا وفاقدا لقدرته على الحركة ولكنه عاد أكثر عزيمة وإرادة وإصرارا .

استكمالا للمخطط الذي بدأ يتكون في ذهني منذ الطفولة بأهمية الجمع بين المال والجاه وبناء العلاقات مع صناع القرر قررت بناء بيت يليق بأن يكون نموذجا حضاريا ومعماريا لفلسطين، متذكرا كيف كان يجمع روتشايلد صانعي القرار في بريطانيا في بيته.

عدت إلى نابلس وذهبت حيث الجبل الذي ولدت به (جبل عيبال) على أمل أن يحتصن المنزل الذي حلمت به وقد استفسرت عن معنى كلمة عيبال  فأخبروني بأنها تعني اللعنة باللغة الكنعانية أما الجبل المقابل جبل جرزيم فكان يعني الرحمة فذهبت إلى جبل الرحمة ووفقت بشراء 300 دونم عبر عشرة سنوات معظمها يصنف ضمن منطقة (c ) بدأت بشراء دونم واحد وتوسعت ضمن مخطط لحماية قمة الجبل من بناء مستعمرات هناك وبدأت ببناء البيت متطلعا أن يكون بمثابة رمز حضاري في فلسطين أسميته لاحقا مع الزعيم الراحل بيت فلسطين بعد أن نقلت عشرات الشاحنات من المقتيات التي جمعت على مدار 50 عاما ومن مختلف أنحاء العالم ولنزع أكثر من 8000 شجرة زيتون حول المنزل ولنبني أربعة أجنحة توثق التاريخ والغرافيا والكون وموقعا أثريا منذ العهد البيزناطي لبصيح المنزل بمثابة لوحة فسيفسائية تجمع حضارات العالم وتروي قصة فلسطين من خلال لوحة إبداعية حقيقة .

 

زامن بناء بيت فلسطين مع انطلاق الانتفاضة الثانية وحرصنا على الاستمرار في هذا المشروع الذي وفر مئات فرص العمل للشباب في ظل الظروف الصعبة كذلك عملنا في نفس الفترة على بناء جناح زهية حنون للأطفال في مستشفى الاتحاد النسائي العربي في مدينة نابلس وكذلك إعادة بناء كلية منيب رشيد المصري للهندسة في جامعة النجاح الوطنية بعد أن سددت تكاليف بناءه أول مرة عام 1978 بعد أن زارني ابن عمي حكمت المصري الذي طلب مني المساهمة في تحويل كلية النجاح إلى جامعة وكنت في ذلك الوقت أملك مليوني جنيه استرليني فطلبت من البنك العربي تحويل نصف ما أملك لحساب كلية النجاح ولكن للأسف تعثر بناء المشروع بقرار من الاحتلال بسبب قربه من سجن جنيد .

 وفي الفترة نفسها التي شهدت انطلاقة انتفاضة الاقصى أسسنا كذلك جمعية اللجنة الأهلية لمحافظة نابلس مع المرحوم غسان الشكعة والأخوة محمود العالول وعبد الرحيم الحنبلي وعدلي يعيش لتشكل رافعة حقيقية للمجتمع النابلسي فترة الحصار فحققت التكافل الاجتماعي والرعاية لعائلات الشهداء والأسرى .

مع كل فترة كانت تمضي كانت علاقتي بصديقي الأعز ياسر عرفات تزداد قوة، لتتشكل صداقة وثقة عميقة بكافة أبعادها الأمر الذي دفعه للإصرار على ترشيحي كنائب له وكرئيس للوزراء  وقد رفضت ذلك بشدة حرصا مني على تعزيز حركة فتح التي نعتز ونفتخر بها وبأهمية أن يكون رئيس الحكومة من قيادات الحركة  .

ياسر عرفات كان بالنسبة لي الملهم والقائد الذي رسخ هوية فلسطين ودافع عن قضيتها التي حولها من قضية لجؤء إلى قضية شعب يناضل أجل حقوقه وأرضه وقد شكل رحيله بالنسبة لي  ألما ووجعا لا ينسى وخوفا من مستقبل مجهول ينتظرنا فلم أفكر يوما بمستقبل فلسطين بدون ياسر عرفات لكن هذا هو القدر وسنة الحياة.

بعد ذلك انتخب شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة الأخ محمود عباس رئيسا لدولة فلسطين والذي سار على نهج الشهيد ياسر عرفات في الحفاظ على الثوابت الوطنية وعدم الخضوع للاحتلال والاملاءات الأميركية فكان خير خلف لخير سلف .

لم نصمد طويلا حتى نشهد كتابة المحطة الأسوء من تاريخ شعبنا الفلسطيني وهي الانقسام المؤسف عام 2007 الذي كان بمثابة المصيبة الأكبر على شعبنا وقضيتنا وبدأت ومند اليوم الأول ولغاية يومنا هذا محاولة إنهاءه دون جدوى وأسسنا لأجل ذلك منتدى فلسطين والتجمع الوطني للمستقلين للمساهمة بتعزيز صوت المستقلين ومشاركتهم في العمل السياسي وما زلنا نمضي به ساعين لإنهاء الانقسام المقيت والمساهمة بعد ذلك بإنهاء الاحتلال .

في مرحلة لاحقة قبلت تكليف القيادة بعضوية لجنة التواصل مع المجتمع  الإسرائيلي وتحديدا مهمة التواصل مع القطاع الخاص الاسرائيلي وكان هدفي الأساس تنبيههم إلى أن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم إلى المجهول إن لم يعترفوا بالحقوق الفلسطينية وبأن العرب يقدمون فرصة تاريخية متمثلة  بمبادرة السلام العربية والتي تعتبر بمثابة فرصة ذهبية للسلام واستثمرت تعرفي على حفيدة روتشاليد لأوجه دعوة لها ولوالدها لزيارة بيت فلسطين في نابلس وقد طلبت منه إصدار بيان مشترك يتمثل برفض وعد بلفور والسعي لتصحيح مسار جده والدعوة للسلام ولكنه رفض ذلك وتردد بالاستجابة  .

حلمت بالسلام وتحديدا سلام الشجعان على درب الشهيد ياسر عرفات وحاولت جاهدا التأثير عى رجال الأعمال الاسرائليين وأطلقت مبادرة كسر الجمود  بالتنسيق مع القيادة الفلسطينية من خلال المنتدى الاقتصادي العالمي بحضور الرئيس أبو مازن والملك عبد الله والرئيس بيرس وجون كيري ساعين لبناء مبادرة مشتركة على اساس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية وحل الدولتين واجتمعنا مرارا دون جدوى فقررت الاستقالة فورا من لجنة التواصل وإنهاء مبادرة كسر الجمود وطي هذه الصفحة دون العودة لها.

بعد ذلك قررت مضاعفة  الجهود المبذولة لصالح العمل الخيري والتنموي في فلسطين كنتاج لقناعة تامة بأن تعزيز صمود شعبنا على أرضه والمساهمة في تحقيق التنمية هي سر البقاء والصمود فعززنا مشاريعنا التنموية بكافة أنحاء الوطن ليصل مجموع ما أنفقته العائلة على العمل الخيري ما يقارب المئة وخمسون مليون دولار حتى عام 2019 .

وضمن هذه الجهود التنموية وإنطلاقا من إيماني المطلق بأن القدس هي عصب صراعنا مع الإحتلال وبأنها محرك نضالنا الأول بادرت لإطلاق عدد من المبادرات لدعمها أولها مبادرة نعبر أسوارك يا قدس عام 2005 من خلال مؤسسة التعاون التي ساهمت بدعم مئات المشاريع وترميم ومئات المنازل حتى توجت هذه الجهود بتأسيس صندوق ووقفية القدس الذي غدا واحدا من أهم المؤسسات التنموية الداعمة لمدينة القدس .

وعلى وقع القدس وبناء مستقبل مشرق ونحن نشهد تطور العالم وتقدمه كثيرا عن عالمنا العربي وواقعنا الفلسطيني في البحث العلمي وبعد شبه انعدام في الإنتاج العلمي العربي منذ سقوط قرطبة قررت الاستثمار بالبحث العلمي والمبدعين لتعزيز إمكانيات شعبنا الفلسطيني فأسسنا أكاديمية القدس للبحث العلمي التي أنشأت المختبرات والمعاهد ومولت الباحثين ضمن خطة للنهوض بواقع التعليم والبحث العلمي في فلسطين .

عام 2017 كان عاما أسودا بامتياز حين تجرأ الرئيس الأميريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لأسرائيل تبع ذلك اقرار الكنيست الاسرائيلي قانون القومية لترسيخ يهودية دولتهم المزعومة وشعرت حينها كأنه انتزع قلبي من جسدي المتعب لأعود بذاكرتي مع معلمي الأول راغب ملحس لأتذكر وعد بلفور المشؤوم الذي يعود مرة أخرى من خلال دونالد ترامب وبعد100 عام تنفيذا لمخطط بشكل متناهي الدقة ويحققون أهدافهم هدفا تلو الأخر .

لم يستمر الألم كثيرا لأن بطلي الأول أبو عمار علمني وعلم العالم  بأن شعب الجبارين  لا يستسلم وسينتصر طال الزمن أم قصر وهنا قررت إطلاق خطة تنموية شاملة لمئة عام كجزء من خطة لألف عام بدأت بتنفيذها وستكون نهجا لأبنائي وأحفادي وأحفاد أحفادي حتى تحقيق أهدافها وتقوم الخطة على أسس وأهداف عديدة أبرزها الاستمرار في محاولة أنهاء الانقسام وتحقيق وحدتنا الوطنية وتوثيق القصة الفلسطينية منذ العصر الحجري ولغاية يومنا هذا لدحض الخرافة الصهيونية ودعم البحث العلمي والتعليم باعتباره أساس التغيير وبناء الأجيال وبناء أهم مركز للأبحاث العلمية على قمة جبل جرزيم والمساهمة في حماية القدس والدفاع عن عروبتها وتعزيز المساهمة التنموية في فلسطين لتعزيز صمود شعبنا على أرضه وتوفير حياة كريمة له .

فلسطين كلمة السر وسر الكلمة نعم هي كل حياتي منذ أن كنت طفلا حتى يومي هذا وهي قلقي الأبدي بعد الرحيل ولكنها ثقتي الكاملة بأبنائي وأحفادي وابناء شعبي بأنهم سينتصرون وسيرفع شبل من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق القدس .  

منيب رشيد المصري